كتب يوسف قبلان أنّ ليبيا تقف اليوم في قلب عاصفة مالية وأمنية تتجاوز حدودها بكثير.
في صلب هذه الأزمة تقف حكومة موازية في الشرق تخضع لسيطرة فعلية للمشير خليفة حفتر، وتعتمد منذ 2023 على تمويل نقدي بلا ضوابط لدعم عملياتها.
خلال عامين فقط، ضاعفت هذه السلطة الدين المحلي بنحو 129 مليار دينار ليبي، ليصل إجمالي الدين الداخلي إلى 284 مليار دينار، وهو الأعلى في تاريخ ليبيا الحديث.

أوضح موقع ميدل إيست مونيتور أنّ هذا التصاعد الصادم في الديون يثير سؤالاً حتمياً: أين تذهب هذه الأموال؟
الآلية التي اعتمدها فرع المصرف المركزي في الشرق تقوم على خلق نقود من العدم عبر الاقتراض المباشر من الخزانة العامة وإصدار سيولة بلا غطاء مالي حقيقي.
وصف خبراء هذه الممارسة بأنها مجرد "طباعة نقود"، سمحت للنظام العسكري الشرقي بتمويل إنفاقه من دون عوائد نفطية أو صلاحية اقتراض مشروعة.

أكّدت مراجعة جنائية أجرتها شركة "ديلويت" حجم هذا التلاعب، حيث كشفت عن ضخ عشرات المليارات عبر ودائع مصرفية وطباعة أوراق نقدية بلا ضوابط. ومع عودة الحكومة الموازية في 2023، تسارعت العملية بمستويات غير مسبوقة، حتى بلغ الدين الجديد ما يعادل 80% من إجمالي الدين العام الذي راكمته الحكومات المتنافسة بين 2014 و2020.
أدى ذلك إلى أزمة مزدوجة: تقويض استقلالية المصرف المركزي، وبروز نظام مالي موازٍ يغذي الفساد ويزعزع سعر الصرف ويوفر قنوات تمويل لجهات غير شرعية.
 

تمويل الفوضى: فاغنر والسودان وشبكات الإقليم
أخطر نتائج هذه السياسة النقدية هو دعمها غير المباشر لمجموعة فاغنر، التي أعادت تسمية نفسها بـ"فيلق أفريقيا"، وجعلت من ليبيا مركزاً لعملياتها في القارة.
تحولت أموال ليبية غير خاضعة للرقابة إلى وسيلة سهلة لتمويل نشاطات المرتزقة في منطقة الساحل.
تقارير إقليمية أشارت أيضاً إلى احتمال وصول دعم غير مباشر إلى قوات الدعم السريع في السودان، وهو ما يفاقم إحدى أكثر الحروب دموية في أفريقيا.
تقف أبوظبي ضمن شبكة رعاة خارجيين تستغل حفتر وليبيا كقناة لترسيخ نفوذها في السودان. النتيجة أن الآلية المالية ذاتها التي تدعم فاغنر داخل ليبيا تُستخدم لترسيخ قوى مسلحة عبر الإقليم.

خلق حفتر من خلال هذه السياسة منظومة مالية ترسّخ بقاء المرتزقة والميليشيات وتطيل أمد الصراعات، بما يؤدي إلى موجات نزوح جديدة وتفاقم أزمات اللاجئين والهجرة.
بالنسبة لصناع القرار في أفريقيا وأوروبا، الخطر واضح: الفوضى المالية في ليبيا ليست شأناً داخلياً بل مضاعف أزمات إقليمي يسمح لقوى خارجية باستغلال هشاشة البلاد.
 

اقتصاد الظل والتداعيات الدولية
إغراق السوق بأموال بلا ضوابط غذّى اقتصاد ظل يزعزع ليبيا داخلياً ويمتد أثره إلى دول الجوار.
الأسلحة والمخدرات تعبر الحدود نحو تشاد والسودان والنيجر، فيما تقوى شبكات تهريب البشر المتجهة شمالاً إلى المتوسط، وهو ما تعتبره أوروبا أولوية أمنية قصوى.

تحمل هذه الديناميكيات مخاطر دولية إضافية، إذ يساهم تدفق المليارات في دعم المرتزقة والأسواق غير الشرعية، ويخلق مسؤوليات محتملة على أطراف أجنبية قد تجد نفسها متورطة في فضائح فساد أو تمويل غير مشروع.
يحذر الخبراء من أن الارتباط طويل الأمد بسلطات تستند إلى تمويل غير قانوني قد يجلب عواقب سياسية وقانونية خطيرة.
 

تهديد استراتيجي متعدد الأبعاد
ليست الأزمة الليبية مجرد سوء إدارة مالية، بل مضاعف تهديد استراتيجي يربط بين تضخم الدين في بنغازي وتمويل المرتزقة والصراعات الإقليمية والاقتصادات الموازية وأزمات اللاجئين.
إذا استمرت هذه المسارات بلا ضبط، قد تنهار منظومة الاقتصاد والأمن في ليبيا خلال سنوات قليلة، مع آثار كارثية على الشعب الليبي وارتدادات مزعزعة عبر أفريقيا وأوروبا.

تُظهر تجربة الشرق الليبي كيف يتحول القرار النقدي، حين يُختطف من مؤسسات شرعية، إلى أداة للفساد والصراع وعدم الاستقرار.
إذ أن الحكومة الموازية تحت سلطة حفتر خلقت أكبر دين في تاريخ ليبيا، ومولته عبر مسارات دعمت فاغنر والمهربين ورسخت الصراعات في السودان والساحل، ودَفعت بأزمات لاجئين وهجرة نحو أوروبا.

الرسالة التي يوجهها هذا الواقع إلى صناع القرار واضحة: مواجهة الفوضى المالية في ليبيا ضرورة مركزية لأمن المتوسط والساحل وأوروبا.
القضية لا تتعلق فقط بكيفية إنفاق ليبيا أموالها، بل بكيفية تحوّل المليارات غير الخاضعة للرقابة إلى وقود للفوضى بدلاً من أن تكون مدخلاً للسلام.

https://www.middleeastmonitor.com/20250919-printing-chaos-how-libyas-monetary-crisis-fuels-war-wagner-and-refugee-crises/